بـدون تعليـــــــق

___________________________

الثلاثاء، سبتمبر 4

أَمَـــــــــــــــــــــــــــــــــــلْ

إهداء إلى الغاليات

نورا عبود
ريهام مبارك
زينب سعد

في صفحة من صفحات الكتاب الكثيرة, في منتصفها تقريبا سطران شعريان لا أذكرهما, لكنني أذكر جيداً أنني حين قرأتهما للمرة الأولى استوقفانني كثيرا, كان فيهما شيء مختلف, ولذلك قررت البحث عن "صاحبة" السطرين والتي كان اسمها "أمل"

بالنسبة لمدرس اللغة العربية في الصف الثالث الثانوي فقد مرّ على السطرين كغيرهما ولم يعقّب .. الآن أتساءل: ترى هل يدرك أستاذ اللغة العربية فداحة الجريمة التي ارتكبها حين سمح لهذا الاسم أن يمرّ دون أن يتوقف عنده ويحكي لنا عنه, ليخرج هذا العدد الهائل من الطلبة دون أن يعرفوا أن هناك من يدعى أمل دنقل؟!!

 نعــــــمْ .. اكتشفت بعد وقتٍ أنّ كاتب السطور التي استوقفتني ليس قادماً من كوكب الزهرة كما تصورت .. لا أذكر تحديداً متى اكتشفت ذلك ولا أذكر كيف كان انطباعي حينها, ككل البدايات للأشياء الممتدة العميقة في حياتنا, لا نذكر متى وأين وكيف بدأت.

 لكنني أذكر جيدا حين قرأت لأول مرة "لا تصالح" .. يومها لم أفهم شيئاً وتصورت أن هذا الشاعر لا يكتب كلاماً موزوناُ من الأساس وقلت لنفسي: لن أقرأ له ثانيةً.

حين قرأ خربشاتي التي كنت أسميها أيامها شعراً كتب لي ملاحظاته على هوامش الورق ثم أعطاني مجموعة من أشعاره لأقرأها .. ذهبت إليه في اليوم التالي لأعيد له أوراقه, أخبرته أنني استمتعت رغم أنني تقريبا لم أفهم أغلب ما كتب ثم علقت أخيرا: طريقتك تشبه ..... أمل دنقل. فردً بانتشاء: إنه شاعري المفضل.

في ذلك اليوم قررت أن أتراجع عن قراري, يبدو أن هذا الشاعر يستحق أن أقرأ له حقاً.

سنواتٍ مرّت منذ ذلك اليوم, صار فيها أمل دنقل جزءً من حياتي وكيف لا يكون!

كم شاعراً أنت مُعجب به؟ كثيرون هم بالتأكيد .. كم شاعراً تحبه؟ بالتأكيد هم أكثر من واحد. كم شاعراً يكتبُكْ؟ .. هل يمكن أن يكون إلا واحداً؟! بالنسبة لي كان أمل دنقل هو الوحيد الذي يكتبُني.
تجسيدٌ مثاليٌّ لمعنى الوجع اللذيذ, تلك العبقرية في وصف ما يعرفه الجميع جيدا لكنهم عاجزون عن تحويله إلى كلمات وتلك العبقرية في رؤية ما لا يستطيع غيره أن يراه  فيما هو ظاهر عياناً للجميع.

شيئا فشيئا يقترب مني أمل, أو أقترب منه, فتزداد اللذة ويزداد معها الوجع. لكن الوجع يزداد إلى ذلك الحد الذي يجعله قاتلا في بعض الأحيان. أتخذ قراري : لا أمل دنقل.
إجازة منه تعني هدنة من الوجع واللذة معاً, لكن لا ضير, يمكنني التنازل عن اللذة في مقابل البعد عن الوجع... ولكنّي دائماً أعود.
بضع كلماتٍ له طبعتها صديقة أو نشرتها صفحة ما أجدها على صفحتي الرئيسية تنسيني ذلك العهد الذي قطعته, أقرؤها ثم أقرؤها ثم أقرؤها .. كتلك التي تلتقي حبيبها الغائب بعد طول فراق وجفاء.

الآن اشهد بأن حضورك موتٌ .. وغيابك موتان

لا أذكر تحديدا عدد المرات التي قررت فيها أن أشتري أعماله الكاملة, أو عدد المرات التي قابلت فيها أعماله هذه في أي معرض من معارض الكتاب, لكنني في كل مرّة وبعد أن أمسك الكتاب بين يدي أعيده إلى مكانه ولا أشتريه .. الميزانية لا تحتمل, لن أشتري كتباً جديدة حتى أنهي قراءة ما اشتريته سابقاً, لن استطيع حمل الكتاب في أثناء تجوالي.. كثيرة هي الأعذار التي أسوقها لنفسي رغم أني أدرك جيدا أن أيّا منها ليس هو السبب الحقيقي.

الأعمال الكاملة لفاروق جويدة .. كان يوماً ما شاعري المفضل فكانت أعماله لا تفارق وسادتي إلا لأفتحها بين يدي أتناول منها الجرعة اليومية قبل النوم. الوِرد المقدس قبل الأذكار كلّ ليلة..

هكذا أفعل حين أحب شاعراً, فكيف سأفعل مع أمل؟! لأجل ذلك لم أكن أشتري كتابه في كل مرّة .. لست أملك قلباً يحتمل جرعة يومية من أمل دنقل.

هكذا عرفت الشاعر

فِي يَدِي: خَمّسُ مَرايَا 

تَعكِسُ الضوْء الذّي يِسْري من دَمي


كثيرا ما ووجهت بتلك التساؤلات المتعجبة أحياناً, المستنكرة أحياناً أخرى عني معه .. كيف لي وأنا أًصنّف -إن جاز التصنيف- إسلامية أن أعشق هذا الشخص صاحب الكتابات المثيرة للجدل .. وصاحب السيجارة والكأس التي ما كانتا تفارقان يديه!نعم أتوقف عند "كلمات اسبارتاكوس الأخيرة" وأشعر بانقباضة حين أقرا مطلعها, بل وأفضل ألا أفعل رغم كل التفسيرات والشروحات عن الفارق بين المراد من الكلمة والمعنى المعجمي .. لا يحدث هذا مع هذه القصيدة فقط, بل مع قصائَد أخرى .. لكن هذا كله لا يملك الحق في منعي أن أحبّ الشاعر فيه.

وأما الإنسان فتلك قصة أخرى:

 متعةٌ لا تضاهى استشعرها حين أدخل إلى عالمه واستكشف فيه أدقّ تفاصيله, أراني فيه أحيانا, بل وأرى كثيرين فيه .. أقف مشدوهة أمام ذلك الإنسان الشاعر أو الشاعر الإنسان, أحاول جاهدة أن أفهمه لكني لم أفعل يوماً.

لم يكن أمل دنقل إنساناً صاحب تجربة, بل هو تجربة تمثلت بشراً .. ذلك المليء بكل تناقضات الحياة, الثائر الحزين, الرقيق الحاد, الطموح اليائس, المحافظ المتحرر.

عاش مُنتصباً, بينما ينحني القَلبُ يبحثُ عمَّا فَقَد

أحب عبقريته الشعرية وأحار في الإنسان فيه وأتعجب لحكايته و .. أدين له بالكثير

...................................


ورسمتكَ فى كرّاساتى حقلاً  

موّجتك أنهاراً 

أوقدتك ناراً 

نزّلتك مطراً 

وتخيرتك فصلاً غير جميع فصول الأعوام*
_______________________________________________

*من قصيدة "هل تعرفني" للسماح عبدالله كتبها إلى أمل دنقل على سرير الشفاء