بـدون تعليـــــــق

___________________________

الأحد، يوليو 1

كلُّـــــــــــــــــــــــــــــــــنا بجماليون

تقول الحكاية أن بجماليون* الذي يكره النساء صنع جالاتيا , أحبَّ فيها جمالها الذي صنعته يداه فتمناها حية تنبض, أحيتها الآلهة فرأى في الإنسان فيها ما ينتقصُ من جمال التمثال فتمناها تعود جامدة كما كانت, وحين عادت أدرك كم يحتاجها حية.في النهاية كفَر بكل شيء, حطّم التمثال الذي صنع ومعه الإنسانة التي أحبّ. وفي النهاية فقط -وعندما فقد كل شيء- أدرك أن هذا الصراع كان نوعاً من العبث " إني الآن أرى وأبصر وأعرف وأقدر .. ولكن..........لقد آن الأوان" .. بجماليون يلفظ انفاسه الأخيرة بعد أن عاش مثلهم جميعا "يحطمون الجمال الذي يصنعون ليعيدوا بناءه من جديد"


الحياة ناقصة, والبشر جبلوا على النقصان .. بذلك آمنت وأؤمن وسأظل .. لكن هؤلاء البشر في نقصانهم مختلفون, فترى أيهم يمكننا أن نختار؟! أي النقصان يمكننا تجاوزه دون الشعور بافتقاد الناقص وأيه نعجز عن تجاوزه ويقتلنا افتقاد الغائب فيه؟!

تقول قواعد التنمية البشرية أن أولى الخطوات اللازمة لتحقيق هدف هي أن نعرف ماذا نريد .. لكن هذه القواعد تغفل أن معرفة "ماذا نريد" هي هدف في ذاتها, ربما هي أهم هدف!

بجماليون كان يعرف جيداً أنه يكره النساء ويعشق الفن, لذلك قرر أن يوجِد جالاتيا, أراد أن يصنع بفنه ما يسمو على الواقع الذي يراه ويعده في نظره مبتذلاً, وصنع بفنه تمثالاً بديعاً لا يضاهي جماله شيء. لكن الجمال الذي أبهره واغترّ به جعله يتمنى جماده حيّا فلربما استطاع فعلاً أن يخلق ما يسمو على الواقع في كل التفاصيل والصفات لا في الصورة فقط, وتمنّى, وحين منحته الآلهة ما تمناه رأى جماله الذي صنعه بيديه مثالياً يُنتقص حين يمارس أفعال البشر, كيف لهذا التمثال الذي صنعته يداه ألا يطيعه؟ كيف له أن يتمرد عليه؟ بل كيف يجوز لهذا الجمال الذي لا مثيل له أن يتحول إلى امرأة ككل النساء تقوم بالأعمال المنزلية؟!

بجماليون كان يعرف أنه يكره النساء ويعشق الفن, لذلك دعا الآلهة من جديد أن يعود خلقَه حجراً صامتاً كي يكون كاملا لا ينتقص منه شيء. وعاد.

بجماليون أصبح يعرف أنه أحبَّ البشرية التي تمارس الأعمال منزلية حيناً وتتمرد على أوامره حيناً, أكثر مما يحب تمثاله العاجي الصامت. فقط حين افتقد الدفء الذي بعثته جالاتيا في حياته وفي أركان بيته أدرك ذلك.بجماليون الغاضب, من الآلهة ربما, من جالاتيا ربما, من الحيرة قبل كل شيء ومن نفسه التي لم تعرف حقيقة ما تريد حطّم كلّ ما تبقى لديه في اللحظة الوحيدة التي صار فيها "يرى ويبصر ويعرف ويقدر".

هل أنتّ بجماليون؟ نعم, وأنا بجماليون, وربما كلنا بجماليون .. كلنا يكرر طوال الوقت تلك العبارات عن الحياة الناقصة بطبعها والكمال الذي هو لله وحده, بل وكلنا يعترف أنه شخصيّاً ليس كاملاً, لكننا لا ننفك نبحث فيمن حولنا عن الكمال .. ندرك شيئا ما فيهم نحبه ويُسعدنا وجوده, لكننا مع مرور الوقت ندرك فيهم شيئا آخر .. نخافه .. أو ربما -في الحقيقة- ندرك شيئا آخر فينا ما كنّا نعرفه قبلا.في هذه اللحظة يبلغ الصراع داخلنا ذروته في الاختيار بين ما أحببناه حين كنا ما تصورنا وبين ما خشيناه حين اكتشفنا أنهم ليسوا كما تصورنا والأهم أننا لسنا كما تصورنا.

ربما لا تكون طامعاً حين تبحث عن هذا الكمال, لكنك فقط لا تعرف نفسك جيداُ بذلك القدر الذي يجعلك قادراً على الحكم ما إن كان هذا النقصان سينتقص من سعادتك أم لا.

هنا يكون الحل أن تعرف نفسك أولا, لكن تظل المعضلة أنك لن تستطيع أن تعرف نفسك إلا إن عرفتهم, لن تكون قادرا على رؤية حقيقتك إلا في عيونهم, لن تتمكن من معرفة ما تحب إلا إن وجدته فيهم, ولن تكون قادرا على إدراك ما تكره إلى إن لمسته فيهم واقعاً.

في النهاية ربما أنت لا تملك إلا أن تكبح جماح غضبك حين تصل إلى ذروة الصراع لتكون قادراً أن تمنع نفسك من تحطيم جالاتيا خاصتك في اللحظة التي فيها فقط تستطيع أن "ترى وتبصر وتعرف وتقدر" .. ولتدعُ الله ألا تتأخر هذه اللحظة كثيرا فلا تأتيك إلا حين يئين الأوان..


______________
*بجماليون : شخصية من الميثولوجيا الإغريقية تم اقتباس حكايتها في العديد من الأعمال الأدبية من أهمها بجماليون برنارد شو وبجماليون توفيق الحكيم المأخوذ عنها تفاصيل مقالتي

هناك تعليقان (2):

الجنوبى يقول...
أزال المؤلف هذا التعليق.
محاولة لكسر الصمت يقول...

الجنوبي: شكراً جزيلا لك .. لكن أعتقد أن كلنا-ولست وحدي- قد غبنا عن مدوناتنا.

عن جالاتيا, كما قلت أخي تحطيمها يكون ضرورياً, ضروريا جداً في بعض الاحيان, لكن ليس في حالة بجماليون, هو مات لأنه حطمها.



تحياتي